حين لا يكون الألم من المرض: تأملات من عيادة الرعاية التلطيفية
في الرعاية التلطيفية، نتعلم ألا نحصر تركيزنا في السيطرة على الأعراض الجسدية فقط.
فالمرض، لدى اليافعين خاصة، لا ينفصل عن مفاهيم الهوية، الخصوصية، وصورة الذات في عيون الآخرين.
في هذه السطور، أنقل تجربة عيادية واحدة... لكنها كشفت لي بوضوح مؤلم عمق التداخل بين الألم والهوية، بين العلاج والخصوصية.
دخلتُ لأوثّق بيانات الحالة، دقائق معدودة فقط، لكن حين عدت... وجدتها تبكي.
كانت أختها إلى جوارها في صمت، ودموعها تنهمر بلا كلمة.
لم تكن تبكي من ألم جسدي.
كان هناك شيء أعمق… شيء خرج منها لأول مرة، بصوت مسموع.
"كنت بخير... قبل أن يعرفوا.
قبل نظرات الشفقة.
قبل أن أُعامل وكأنني تشخيص فقط."
في تلك اللحظة، فهمت أن الألم لا يسكن الجسد دائمًا.
رأيت في عينيها نوبة ألم أشدّ من أي تهيّج عصبي… نوبة أشعلها الحزن، لا المرض.
في تلك المساحات التي لا تنفع فيها الأدوية،
حيث يفشل المورفين…
يبدأ أثر الاستماع الحقيقي.
لم يكن الألم من عملية الزراعة، كما ظن الجميع.
بل من تسريب الخصوصية…
من أن يُعرف مرضها، وخطة علاجها، دون موافقتها.
من أن تُختصر هويتها في ملف طبي، أو منشور متداول، أو نظرة مشفقة.
هويتها القوية، المشرقة، التي تعبّرت عنها دائمًا بثقة… شعرت فجأة أنها انتُزعت منها،
ليس بسبب الورم، بل بسبب نظرة المجتمع.
في أعين الآخرين، وفي عينيها هي… لم تعد كما كانت.
جلست معها وقتًا أطول.
وسألتها بهدوء:
"ما الذي أزعجك مؤخرًا؟
متى بدأت الأمور تتغير؟"
حينها فقط… بدأت تبوح.
رغم أن نتائج تحاليلها كانت مثالية،
ورغم أن كل المؤشرات السريرية كانت توحي بتحسّن…
جسدها كان يقول شيئًا مختلفًا تمامًا.
خرجت من العيادة مؤمنًا بشيء واحد:
أن أقوى الناس نفسيًا، وأكثرهم وعيًا وتقبّلًا لمرضهم، يمكن أن ينهاروا… فقط بسبب اختراق بسيط لخصوصيتهم.
الكثير من الألم الجسدي كانوا قادرين على تحمّله،
بل وكانوا يعيشون بسعادة رغم وجوده… فقط لأنهم شعروا بالأمان.
لكن حين يفقد الإنسان شعوره بالخصوصية،
يهتز كل شيء.
حتى بعد أكبر الإجراءات الطبية،
يمكن أن يتضاعف الألم… دون سبب ظاهر،
لأن السبب الحقيقي يكون: نفسي، عميق، وصامت.
هذه القصة تذكّرنا بأن الفريق التلطيفي لا يكتفي بقراءة نتائج التحاليل،
بل يصغي بعناية للأشياء التي لا تُكتب…
مثل: من عرف؟ متى عرف؟ وماذا فعل هذا الخبر بالروح؟
بقلم: د. ريـمه بنت أحمد السميري، طبيبة زمالة في طب الرعاية التلطيفية
تحرير: د. سلمان باهمام، أستاذ مساعد و استشاري طب الرعاية التلطيفية