أثرٌ باقٍ
التشخيص وبداية الرحلة
كانت شابة في الثامنة والثلاثين من عمرها، تعيش حياة هادئة مع زوجها وابنتيها، حتى تلقت تشخيصًا صادمًا غيّر مجرى حياتها. تم تشخيصها بورم متقدم في البلعوم السفلي، وبدأت رحلة العلاج المكثف بجلسات العلاج الكيميائي والإشعاعي، مرورًا بتدخلات جراحية معقدة وفتح القصبة الهوائية. كانت المرحلة الأولى من العلاج تحمل مزيجًا من الأمل واليأس، وكأنها تخوض معركة طويلة بلا نهاية واضحة.
الألم الذي لا يُرى
في بداية رحلة العلاج، بدت قوية وصامدة رغم شدة الألم. لكنها لم تكن تشكو كثيرًا، وبدت وكأنها تضع قناعًا من الصبر على وجهها. بمرور الوقت، بدأت مظاهر المعاناة النفسية والعاطفية تطفو على السطح. لم يكن الألم جسديًا فقط، بل كانت تسكنها أسئلة وجودية عميقة: ما معنى الحياة؟ كيف أستعد للموت؟ ماذا سيحل بابنتيَّ بعدي؟
تحدثت يومًا مع الأخصائية الاجتماعية التابعة لفريق الرعاية التلطيفية، بصوت مخنوق ودموع محبوسة، وقالت: "أفكر أحيانًا أن أختار امرأةً أخرى لتحلّ مكاني بعد وفاتي، فقط لأتأكد أن ابنتيّ لن تبقيا دون أم. لا أريد لزوجي أن يبقى وحده، ولا أن تضيع أسرتي بعد رحيلي". لم يكن حديثها سهلًا، لكنه كان مليئًا بالحب والصدق والرغبة في حماية أسرتها.
ما قبل الرحيل
كانت شابة صبورة، قوية في صمتها، نقية في روحها. لم تهتم بنفسها قدر ما اهتمت بمن حولها. تابعت تفاصيل ابنتيها الصغيرة بدقة وهدوء، وكانت حريصة على ترتيب أفكارها، وتسجيل وصاياها، وطمأنة زوجها وأفراد عائلتها. مع مرور الأيام، أصبحت علاقتها بفريق الرعاية التلطيفية أكثر قربًا، فقدموا لها الدعم النفسي والاجتماعي والروحي، إضافة إلى العناية الفائقة بألمها الجسدي.
بدأت تشعر بالراحة تدريجيًا، وكأنها تضع بعضًا من الحمل الثقيل جانبًا. كانت تحدث ابنتيها عن المستقبل، وتحثّهما على التفاؤل، وتغرس فيهما حب الحياة. في كل خطوة، كانت تترك أثرًا حنونًا خلفها، وكان منزلها يمتلئ بمشاعر الأمان والحب.
الرحيل والأثر
وفي أحد الأيام، رحلت بهدوء وسلام، كما عاشت تمامًا. انتقلت روحها إلى خالقها وهي مبتسمة، مطمئنة على من تحب. تحققت أمنيتها الأخيرة بأن تبقى أسرتها قوية، محاطة بالحب والدفء.
رحلت، لكن أثرها بقي. قصتها أصبحت مصدر إلهام لكل من عرفها، وذكرى عميقة في قلوب من أحبوها. علمتنا أن الرعاية التلطيفية لا تقتصر على تخفيف الألم الجسدي، بل تمتد لتخفيف ألم الروح، ولزرع السكينة في أقسى اللحظات.
اللهم ارحمها واغفر لها، وارفع درجتها في عليين، وأنزل عليها رحمتك ورضوانك، واحفظ أسرتها بعين عنايتك، وامنحهم السكينة والثبات.
آمين.
بقلم د. مصعب بن عبد الرحمن الضاري